من وصل لم يقل، ومن قال لم يصل" رحيم الأسدي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
هذه المقولة: "من وصل لم يقل، ومن قال لم يصل"، تُنسب في الغالب إلى بعض التيارات الصوفية والعرفانية، وهي تعكس رؤية مخصوصة حول تجربة "الوصول" إلى الحقيقة الإلهية أو الكشف العرفاني، وتدلّ على أن من "وصل" إلى الحقيقة قد غاب عن العبارة، ومن "قال" لا يزال في مقام الطلب والعبارة.
لكنكم، في لقائنا الكريم معكم، أشرتم إلى أنها تُواجه بإشكالاتٍ جوهرية. فهل بالإمكان توضيح ذلك؟
نرجو منكم بيان الفائدة، والمنفعة، وجزاكم الله خير الجزاء.
الجواب
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمدٍ كمال الدين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، تمام النعمة.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
حياكم الله شيخنا الفاضل.
يمكن الوقوف على هذه الإشكالات في ثلاث رُتب:
الرتبة الأولى: إشكالات منهجية
الرتبة الثانية: إشكالات عقلية
الرتبة الثالثة: إشكالات روحية جذرية
أولًا: التحليل المعرفي والبياني للمقولة
• عبارة متناقضة ذاتيًا:
من يقول: "من قال لم يصل"، فقد قال! وبالتالي، ووفقًا للمقولة نفسها، هو لم يصل! وهذا يجعلها مقولة تلغي ذاتها.
• إنكار ضمني لوظيفة اللغة:
تفترض المقولة أن الوصول إلى الحقيقة لا يُقال، وكأنّ اللغة عاجزة تمامًا عن التعبير عن المعنى الحقيقي، مما ينسف كل مشروع التعليم والتبيين الذي جاءت به النبوة، ويتعارض مع القرآن الذي هو "قول" رباني موجه إلى الخلق.
ثانيًا: الرد التوحيدي–النبوي على المقولة
1. بعثة الأنبياء تردّ على هذا النفي
الأنبياء قد "وصلوا"، و"قالوا"، بل أُمروا بالقول، وعبّروا، وفسّروا. قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [المائدة: 67]
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ) [الكهف: 110]
فالنبي هو أوضح من وصل إلى الله، ومع ذلك بيَّن، وفسّر، وعلّم، وعبّر، وخطب، ودوّن الوحي.
فهل من قائل يقول: إنه لم يصل؟!
2. التعبير فعل عبودية، لا نقيض للوصول
القول ليس ضدّ الوصول، بل هو من ثمار الوصول.
فكما أن الشجرة المثمرة تُخرج الثمر، فإن القلوب الواصلة تُخرج البيان. وهذا هو معنى قوله تعالى:
(الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن: 1–4]
ثالثًا: نقد بنّاء للمقولة ضمن السياق العرفاني
أ. المقولة تنتمي إلى عرفان سلبي (فرداني–صامت)
صوفي لا يؤمن بالتفسير، ولا يؤمن بالتعبير، بل يحتكر الحقيقة في تجربة داخلية منفصلة عن العمل والبيان.
وهذا يخالف العرفان النبوي الذي يُعبّر عن الحق في الخلق، وينقل المعنى، ويُخاطب الناس بالحكمة والموعظة الحسنة.
ب. المقولة تُنتج عزلة سلبية
تحمل في طياتها بينونة عزلة لا بينونة صفة.
من يتبناها قد يظن أن "الصمت" هو قمة القرب، مما يدفعه إلى الانفصال عن المجتمع، وترك الإصلاح والتبليغ والتعليم، وهي خلاف وظيفة الواصلين الربانيين.
ومع ذلك، نلاحظ أن القائلين بها يقولون، ويعبرون، ويفسرون!
فكيف وصلوا إلى حالهم وأحوالهم؟ وكيف عرفوا، ثم قالوا عن تجربتهم الداخلية؟
فإذا لم يحتكروها، فلمَ يدعون إلى الصمت؟!
رابعًا: قواعد تصحيحية للمقولة
• القاعدة الأولى: الواصل الحقّ هو المعبّر عن الحق. كتعبير يوسف عليه السلام، وامتناع بعض طبقة المعبرين عن التعبير
• القاعدة الثانية: القول النازل من قلبٍ واصل، هو أبلغ من الصمت الصُوري.
• القاعدة الثالثة: من لم يُبيّن، لم يَرحم؛ ومن لم يَرحم، لم يَعرف.
• القاعدة الرابعة: الصمت حالة، لكن البيان رسالة.
خامسًا: المقولة تحت مجهر المنهج الاستقرائي
إذا استقرينا تجارب الأنبياء، والأولياء، والأئمة، وجدنا:
• الواصل يعلّم الناس من موقع القرب.
• القول الحق هو أحد وجوه التجلي الإلهي.
• التعبير ليس نقصًا، بل تكميل لرحمة الوصل.
• السكوت قد يكون أدبًا، لكنه ليس دائمًا حكمة.
خلاصة القول
"من وصل لم يقل، ومن قال لم يصل" مقولة تختزل الوصل في تجربة فردية، وتُلغي التبليغ والبيان، فتقف ضدّ منهج الأنبياء، وتُناقض حكمة الخلق والرحمة والقرآن.
أما العارف الحق، فهو الذي إذا وصل عبّر، وإذا عبّر نوّر، وإذا نوّر دلّ الناس إلى الله لا إلى نفسه.
سادسًا: أصل المقولة وموقعها من فكر النبوة والولاية
• هذه المقولة لم تصدر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله، ولا عن وصيٍّ أو وليٍّ معصومٍ من أهل بيته عليهم السلام.
• بل إنها لا تنسجم مع خطاب القرآن، ولا مع البيان العلوي، ولا مع كلام الأئمة الذي وصفوه بأنه:
"نور، وحياة، ولسان الحق."
قال الإمام الصادق عليه السلام:
"حديثُنا يُحيي القلوب، ومن قال عنّا ولم نقل به، فهو في النار."
• فلو لم تكن هذه المقولة كوثرًا محمديًا علويًا نابعًا من نهر النبوة والولاية، فهي إذًا قول أبتر، بلا أصل، كزبدٍ يذهب جفاءً.
لقد كان محمد وآل محمد صلوات الله عليهم هم المفسرون، المعبرون، المعلمون، المربّون، المصابيح التي تنير الكون.
وكما قال الإمام الصادق عليه السلام:
"كلامكم نور، وأمركم رشد، ورأيكم علم."
• وبالتالي، فالمقولة من حيث الأصل ليست جزءًا من المدرسة المحمدية العلوية، بل هي أقرب إلى "الصوفية الصامتة" التي تنكفئ عن البيان باسم "الغيبة في الفناء"، بينما كان أهل البيت هم البيان في القرب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق