السؤال :
ما سبب الخلط بين نوعي السؤال والجواب في القضايا الغيبية والمعارف التجريدية؟
الجواب الاستقرائي:
اللهم صلّ على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين.
من جملة القوانين الكونية الحاكمة في نظام المعرفة الإلهية، أن للسؤال مراتب، وللجواب مقامات. وتحديد مرتبة السؤال شرط للوصول إلى مقام الجواب. وهنا نضع القاعدة الأولى:
القاعدة الأولى: "ليس كل سؤالٍ يُجاب بعقل حصولي، كما أن ليس كل جوابٍ يُنال بمجرد السؤال".
وقد بينت التجربة الفكرية–الروحية أن التمييز بين "السؤال الحضوري" و"السؤال الحصولي" شرط في صحة البحث والسلوك، فمن سأل سؤالاً حضوريًا، وجواب عليه جوابًا حصوليًا، فقد ضيّع الجهة، وغاب عن الفطرة.
المفاهيم المركزية:
السؤال الحصولي: هو السؤال الذهني، المعلوماتي، الذي يطلب المعنى عبر العقل الأداتي والمنطق البرهاني.
السؤال الحضوري: هو السؤال الوجودي، الكينوني، الذي يصدر عن احتكاك الذات بالحقيقة، ويطلب المعرفة بالتجرد لا بالتصور.
الجواب الحصولي: جواب قائم على البيان المنطقي، الحجّة، الاستدلال.
الجواب الحضوري: جواب يتم بـــ"معاينة القلب"، وهو نور يُلقى، لا فكرة تُنتزع.
الموقف الاسقرائي:
مشكلة العصر المعرفي:
أنّ كثيرًا من المثقفين، بل حتى بعض أساتذة الجامعات، يطلبون البرهان الحصولي على حقائق لا تُنال إلا بالذوق الحضوري، كالسؤال عن:
وجود جبرائيل عليه السلام.
مقامات العارفين.
حقائق الملكوت.
أسرار النبوة والإمامة.
وهم في ذلك يقيسون عالم التجرد بمسطرة المادة، وعالم النور بمنطق المعادلة.
الإشارة القرآنية:
قوله تعالى:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (الإسراء: 85)
تَجلية قرآنية أن العجز عن إدراك "الروح" ليس عجزًا في الحقيقة، بل عجزًا في نوع العلم، لأنهم طلبوا جوابًا حضوريًا بعقل حصولي، فاستحالت المعرفة عليهم.
النكتة المنهجية:
حين يُطلب وجود الملكوت بالدليل العقلي وحده، فكأنك تطلب طعم العسل من وصفه، لا من تذوقه.
الحقائق العالية لا تُستدل، بل تُذوق. وهذه الذائقة لا تنفتح إلا للتقي النقي.
اللطيفة السلوكية:
حين سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله: "متى الساعة؟" لم يجب عن الزمن، بل أجاب عن الاستعداد:
"وما أعددت لها؟"
وهذه قاعدة سلوكية عليا:
"السؤال عن الالام الغيبي لا يُجاب بتحديده، بل بالتهيؤ له."
فالسؤال الحضوري هو: هل أنا على استعداد للقاء؟
وليس: متى اللقاء؟
الصدرات التربوية:
1. الجواب الحضوري ثمرة تهذيب، لا ثمرة تحصيل.
2. التجرد الخُلقي باب المعرفة العرفانية.
3. الذي لا يطهر قلبه لا يذوق أسرار النبوة ولا مقام الإمامة.
4. المعلومة لا تنقذ، لكن المعرفة تنجي، (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ... فَقَدْ فَازَ).
5. كثير من إنكار الغيب مرده إلى خمول روحي، لا إلى نقص منطقي.
الإشارة الأخيرة: مظلومية العوالم
ما يعيشه الإنسان من إنكار أو جمود روحي، هو من مظلومية عوالم الإنسان:
مظلومية الروح أمام الذهن.
مظلومية الحضور أمام التحصيل.
مظلومية النور أمام البيان.
ولهذا لا يُعترف بالنبوة والإمامة إلا في أفق التجرد، لا في منطق الظن العقلي البارد.
الخلاصة الاستقرائية:
السؤال الحق هو الذي يُنزل صاحبه منزلة المتعلّم من الله، لا الباحث عن إثباتٍ لنفيٍ مستتر.
والجواب الحق هو الذي يرتقي بصاحبه إلى مقام المشاهدة، لا الجدل.
ومن لم يتجرد، لم يُبصر، ومن لم يُبصر، لم يعرف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق